تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم


تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم

المقدمة:

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


لقد كانت الأسكندرية -عاصمة مصر القديمة فى العصر البطلمى والرومانى- من المدن التى لها تاريخ ويوُلِيها المؤرخون القدامى اهتماماً كبيراً، وينظر لها العلماء من مختلف العلوم بنظرة احترام، ذلك لما حظيت به من حضارة واهتمام من جانب الحُكّام والأباطرة فكانت مزاراً لهم على مختلف العصور وقالوا فيها وفى وصفها الكثير من الكلام الطيب.


لم تلقى الأسكندرية من مؤرخى العصر الإسلامى هذا الإهتمام، على عكس القاهرة التى كٌتِبَ فى تاريخها الكثير بواسطة المؤرخون العرب والمسلمين والمسيحيون، ووصفوا عجائبها وكانت بالنسبة لهم مركزاً للرحلة لما فيها من مناظر تسُر من يراها ولما فى جوها من طابع مختلف، ووصفوها بأنها "إرم ذات العماد . التى لم يخلق مثلها فى البلاد" التى بناها قوم عاد وذكرت فى القرآن، ذكر ذلك ابن عبدالحكم، السيوطى، المقريزى، ابن لهيعة وغيرهم؛ قالوا ان بها آثار ورخام وكتابات تدل على أن تاريخها يرجع لقوم عاد.


وأرجع الدكتور السيدعبدالعزيز سالم إهمال المؤرخين المسلمين لها وضعف المصادر فيها إلى طابعها اليونانى الرومانى الذى لم يتغير حتى بعد دخولها الإسلام وتعريبها.


اهتم المؤرخون فى العصر الحديث بالبحث في تاريخها وإخراجها للنور ولما كانت الدراسات فيها شحيحة هزيلة لا تشفى هوى الباحث فقد ضاعفوا جهودهم ووضعوا لنا الكثير من الأبحاث لنعلم مدى دورها الحضارى الذى لعبته على مر العصور، وتم تقرير هذه الأبحاث فى جامعات مصر ضمن مناهج التعليم.


وخلال الصفحات القادمة نقوم بدراسة وتلخيص كتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم وهو عبارة عن محاضرات ألقاها فى جامعة الأسكندرية عام 1960م لطلاب الجامعة والكتاب بعنوان "تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامى حتى الفتح العثمانى".


وقد انقسم هذا الكتاب إلى خمس أقسام، القسم الأول ويحتوى على تاريخ الأسكندرية منذ نشأتها حتى الفتح الإسلامى، القسم الثانى من الفتح حتى العصر الفاطمى, القسم الثالث العصر الفاطمى والأيوبى، القسم الرابع العصر الذهبى للأسكندرية (عصر المماليك)، القسم الخامس حضارة الأسكندرية فى العصر الإسلامى.

 

 

الفصل الأول
منذ التأسيس حتى الفتح العربى

دخول الاسكندر لمصر

عندما حاصر الإسكندر الأكبر مدينة صُوُر سبعة أشهر ونجح  فى فتحها واصل الزحف إلى مصر، والتى دخلها بدون مقاومة تذكر، فقد رحب به المصريين وتوجوه ملكاً لهم بمعبد الإله بتاح الواقع فى منفيس.

أقام الإسكندر فى منفيس فصل الشتاء ثم ركب البحر متوجه لواحة آمون (سيوة)، وعند انتهاءه توجه لبحيرة مريوط، وهناك لاحظ قرية ساحلية لا يوجد بها غير عدد من صيادين الأسماك وكانت هذه القرية تسمى راكوتيس أو راقودة عندالعرب.


اختياره لموقع الأسكندرية

هناك روايات عديدة لسبب إختيار الإسكندر لمكان هذه المدينة: (1) أن هذا الميناء لا يتعرض للتيارات البحرية التى تدفع الرواسب النهرية فتسبب سد للموانئ. (2) أنها قريبة من جزيرة فاروس وبحيرة مريوط التى تحتشد بها السفن القادمة من جنوب مصر. (3) وجود تشابه بينها وبين مدينة صور الحصينة مما لفت نظر الإسكندر الذى كان يبحث عن مركز يشيده ليكون مركزا لنشر الحضارة الإغريقية. (4) مركزها الإستراتيجى وربطها مصر بالعالم الإغريقى وتحكمها فى طرق التجارة العالمية. (5) جعلها ثغراً مقدونياً يخلف مدينة صور فى الحضارة والعالم التجارى. وقيل أن اختيار المكان جاء محض صدفة مع الأخذ فى الاعتبار أن الإسكندر وبلا شك وضع فى حسبانه ان تكون المدينه رابطه تجاريا بين الشرق والغرب.


لقد كانت راكوتيس عبارة عن شريط ساحلى يقع بين بحيرة مريوط والبحر المتوسط ويشرف عليها جزيرة فاروس الصخرية.


بعد اختيار المكان عهد الاسكندر إلى المهندس دينوقراطيس بتخطيط المدينة، وتولى كليومينس النقراطيسي الإشراف على البناء حيث أنه كان المسؤول عن إدارة الشؤون المالية للاسكندر.


خطط دينوقراطيس المدينة على الطراز الإغريقى، وتكون فيه المدينة عبارة عن شوارع مستقيمه تتقاطع كلها فى زاوية قائمة، أشبه برقعة الشطرنج فكانت سبعة خطوط بالطول تصل للساحل و اثنى عشر تقطعها بالعرض من الشمال للجنوب وكلها مرصوفه بالبازلت الأسمر أو الأصفر.


مات الإسكندر عام 323 ق.م عن عمر 33سنة و قبل أن يرى مدينة الأسكندرية، بموتة بدأ العصر الهيلينستى وهو عصر الحضارة المتأغرقة[1].


خليفة الاسكندر فى بابل وحاكم مصر

اجتمع قواد الاسكندر ليولوا أحد خلفاً له، فنصّبوا اخوه المصاب بالصرع (فيليب) واعطوا الحق لزوجته (روكسانا) إن أنجبت ولد ان تشركه فى الحكم مع عمّه، ونصبوا (برديكاس) وصى عليهما.


قام برديكاس بدورة ووزع المدن على قواد الإسكندر، أخذ بطليموس مصر وكان يطمع فى الظفر بها مقابل اعترافه بسيادة برديكاس وسلطانه، وعيّن برديكاس شخص اسمه كليومينس نائب ومساعد لبطليموس وفى الحقيقه هو مراقب له.


ولما كانت نوايا بطليموس هى الإنفراد بحكم مصر كان هدفه الأول هو التخلص من هذا المراقب، وبالفعل أمر بقتله واستولى على أمواله واحتل برقة وضمها لحوزته.


غضب بريكادس من تصرفات بطليموس التى لا تنذر بخير ولكنه لم يستطع الإنتقام منه لانشغاله بالحركات الاستقلالية فى آسيا، وهذا ما استغله بطليموس وتعاون مع أرهابايوس على نقل جثمان الاسكندر من مقدونيا إلى الاسكندرية وتم بالفعل ذلك.


فعل بطليموس ذلك لإضفاء الشرعية والقدسية على حكمة وجعْل مكانة مدينتة أرفع وأقدس، وقرر برديكاس قتال بطليموس وتحرك بجيشه وحاصر الاسكندرية وفشل فى دخولها وثار عليه جنوده وقتلوه.


أعمال بطليموس سوتر (المنقذ)

استتب الأمر لبطليموس بعد مقتل برديكاس، وبدأ فى توطيد حكمة والعمل على تقوية مركزه بإنشاء المعاهدات مع جزر البحر المتوسط، حيث بذلك انتقل بسياسته من آسيا، أضاف لدولته أراضى جديدة من جنوب سوريا غنية بالموارد والغابات التى ستمدة بالخشب لبناء اسطول بحرى قوى تمهيداً لتنفيذ سياستة البحرية.


من الناحية الإقتصادية فقد ازدهرت الدولة وزادت مواردها، وعمل على تجميل البلاد وتعميرها وتشييد مبانيها حتى اصبحت بؤرة للحضارة الإغريقية.


ومن الناحية الاجتماعية فقد سلك نفس مسلك الاسكندر الأكبر فى مصادقة المصريين والتقرب لهم، فبنى معبد للإلهة إيزيس المصرية ليؤلف قلوب المصريين، وبنى معابد للآلهه الأُخرى وكان قد أقام معبد لإله جديد يربط بين كل المصريين واسمه سيرابيس.


كان فى المدينة شارعان رئيسيان واحد من الشرق للغرب وواحد من الجنوب الى الشمال، لا يقل اتساع واحد منهم عن ثلاثين متراً مزينين بالأعمدة والأقواس، ويحيط بالمدينة سور حجرى ضخم مزود بالأبراج الضخمة.


كانت تنقسم لخمسة أحياء متجاورة، يرمز لكل واحد منهم بحروف الهجاء اليونانية، أشهر هذه الأحياء هم ثلاثة أحياء (الملكى – الوطنى – اليهودى).


أهم المؤسسات والمنشآت فى العصر البطلمى

المنار: 

لما كان بطليموس يريد أن يحقق سيادته البحرية على البحر المتوسط كان لابد له من الإهتمام بميناء الأسكندرية، وقد علمنا مسبقًا أنه أنشأ رصيف صخرى  يقسم ميناء الأسكندرية إلى قسمين، ويصل بالمدينة نفسها إلى جزيرة فاروس.


كان نتيجة ذلك أن تعذّر على السفن الحربية والتجارية الدخول فى الفراغ الضيق الواقع بين الطرف الشمالى الشرقى لجزيرة فاروس والطرف الشمالى الغربى للشريط الصخرى، فأمر بطليموس ببناء منار ضخم لهداية السفن عن طريق إشعال النار فى قمته.


عهِدَ بطليموس بمهمة بناء هذا المنار إلى المهندس سوستراتوس، الذى بدأ فى بناءه أواخر عهد بطليموس سوتر، وأتم بناءه أوائل عهد بطليموس فيلادفلفوس، وكان من عجائب الدنيا السبعة.


ضاعت معالم هذا المنار ولم يتبقى إلا أساسه الذى قد بنى عليه قلعة قايتباى سنة 882هـ، تهدّم طابق هذا المبنى العلوى فى القرن الثانى الهجرى 180هـ بسبب الزلازل وأعاد ترميمة أحمد بن طولون وجعل أعلاة قبة من الخشب ولكن لم تمكث كثيراً حتى تهدمت بسبب الرياح، ثم فى عهد الظاهر بيبرس أعاد بناءة أثناء زيارته للأسكندرية 671هـ وجعل فى أعلاه مكان القبة الخشبية التى كانت موجودة مسجداً ولكن تهدّم أيضاً عقب زلزال 702هـ فرممه الأمير ركن الدين بيبرس وتهدم بسبب الإهمال ولم يحاول سلاطين المماليك أن يهتموا به، ويرجع تهدم المنار كله لما بين عامى 725 – 750هـ فى عهد السلطان محمد بن قلاوون، وفى عهد قيتيباى بنى على آثاره برجاً تسمى بإسمه.


دار الحكمة والمكتبة: 

كانت الدولة البطلمية مهتمة بالعلم والعلماء توفر لهم الكتب وتغدق عليهم بالأموال والعطايا لتشجعهم على البحث والتنقيب، وكان هذا توجهه عام للبطالمة فأمر بطليموس سوتر الخطيب الأثيني ديمتريوس بإنشاء مكتبه ودار حكمة يقصدها العلماء من كل انحاء العالم الهلينستى وتنافس مراكز الثقافة الهيلينية.

كانت لتلك السياسة أعظم الأثر على الثقافة والدولة فلقد نبغ وظهر من هؤلاء العلماء أول من قاس الأرض وأول من اكتشف المجموعة الشمسية وإقليدس فى الهندسة، وفى الطب والنبات والتشريح والشعر والأدب والفلسفة وسائر العلوم.


بلغ عدد الكتب فى هذه المكتبة فى عهد بطليموس فيلادلفوس نحو 400 ألف كتاب بستثناء ماكان فى القصور الملكية والمكتبة البنت التى هى فرع من المكتبة الأصلية، وتضاعف هذا العدد من الكتب فى عهد كليوباترا.

كانت من أعظم مكتبات العالم وكان ذلك بسبب أن البطالمة تعاملوا معها كدعاية سياسية للفت النظر إلى حضارتهم وتركيز الأضواء على عاصمتهم كمركز للثقافة العالمية والعلوم.


احترقت مكتبة الأسكندرية عام 48 ق.م عندما أشعل يوليوس قيصر النار فى سفن المصريين فامتدت ألسنة اللهب للمكتبة وأحرقت المخازن، ثم قضى الإضطراب السياسى والديني على باقى الكتب فى عصر انتشار المسيحية.


المعابـد:  

(أ) أقام  بطليموس سوتر معبد سرابيوم لعبادة الإله سرابيس على منطقة مرتفعه من الأرض بالقرب من الحى الوطنى، وكان له 100 درجة للوصول إليه.


أُضيف لهذا المعبد عدة إضافات فى عصر الحكام منها عمود السوارى الذى كان احتفالًا بزيارة الإمبراطور، ومدح هذا المعبد كل من رآه من المؤرخين والزوار والعلماء.


أمر البطريرك ثاوفيلوس بهدم هذا المعبد وما فيه من تماثيل عام 391م، وأقام مكانه كنيسة يوحنا المعمدان.


(ب) قامت كليوباترا بإقامة معبد القيصر احتفالًا بقدوم أنطونيوس وأقامت أمامه مسلتين هما الآن فى فى لندن ونيويورك، ولقد تحول هذا المعبد إلى كنيسة عام 354م وتم إحراقها عام 912م.


ضريح الاسكندر: 

الذى نقلة بطليموس سوتر من منف إلى الاسكندرية – كما ذكرنا – واحتفظ به فى تابوت من الذهب الخالص ثم استولى بطليموس الحادى عشر على التابوت الذهبى وبقيت الجثة فى تابوت من الرخام الشفاف.

 
مصر ولاية للدولة الرومانية

أصبحت مصر ولاية رومانية بعد انتصار أغسطس قيصر على كليوباترا فى موقعة أكتيوم عام 31 ق.م وأفل بذلك نجم الحضارة الأسكندرية بسبب أنها أصبحت ولاية تابعة لإمبراطورية فرضت سيطرتها على العالم بقوة السلاح لا بقوة الحضارة والعلم، غير أن برغم ذلك كانت للأسكندرية نظرة خاصة عندهم فكانت من البلاد الخاصة بالإمبراطور وتم تعيين حاكم عليها رفيع المستوى.


حرص الحكام على إخضاع الأسكندرية لما فى ذلك من إخضاع لباقى مصر، وكان سبيلهم فى ذلك سياسة ( فرّق تسٌد ) فعملوا على التفريق بين الإغريق واليهود فانتزعوا السلطات من أيدي الإغريق السكندريين مما تسبب فى ثورات وإحراق للمعالم التاريخية والتخريب فى منشآت الدولة، هدت تلك الثورات فترة من الزمن نتيجة حضور الامبراطور هادريان إلى الاسكندرية وتهدئته للأحوال فيها.


فى بداية القرن الثانى الميلادى كان الدين المسيحي قد بدأ ينتشر فى مصر عامة لقربها من فلسطين -مهد الدين المسيحي- وفى الأسكندرية بصفة خاصة وأُقِيمَت لها كنيسة فى هذه المدينة، وقال مؤرخون أن ذلك قد يكون بسبب إعلان اخناتون الوحدانية المطلقة فكانت العقول المصرية مستعدة لتقبل هذا الدين.


أثار انتشار الدين الجديد مخاوف الرومان فبدأوا بإضطهاد كل من يعتنق هذا الدين، وبلغ هذا الاضطهاد ذروته منذ أن اعتلى دقلديانوس الحكم لدرجة أن الكنيسة بدأت تقويمها المعروف بإسم تقويم الشهداء منذ تولية الحكم 284هـ.


عانى المصريون كثيرا بسبب ثوراتهم وتمسكهم بالدين المسيحي ورفض الرومان له، وعناد المصريين جعل الرومان ينزلون بالمصرين أشد انواع التنكيل، ورغم ذلك لم يتخلى المصريون عن معتقداتهم.


اعترف قسطنطين الأول بالدين المسيحي وكان اعترافه بالدين المسيحي كدين سماوى معترف به من الدولة البيزنطية انتصارًا حاسمًا للمسيحيين، وجاء من بعده تيودوسيوس واعتنق المسيحية وفرضها بالقوة على رعايا الإمبراطورية الرومانية وفى عهدة أمر البطريرك اوفيلوس بهدم المعابد الوثنية وتدميرها بما فيهم معبد سرابيس عام 389هـ.


وأقيمت فى الأسكندرية عدة كنائس مثل كنيسة القديس مرقص البشير وكنيسة أثناسيوس وكنيسة العذراء مريم وتحول معظمها إلى مساجد فى العصر الإسلامى.


كان لإنتصار المسيحية الأرثوذكسية السكندرية أثر كبير فى ارتفاع مكانة هذه المدينة الروحية وهذا ما لم تقبل به بيزنطة ولهذا نشأ نزاع مذهبى طائفى كبير يستتر وراءه هذا السبب السياسى فاختلفوا حول طبيعة المسيح وإرادتة الواحدة أو الثنائية.


انقسم المسيحيون إلى يعاقبة (وهم اتباع كنيسة الاسكندرية) ويؤمنون بالواحدانية البحتة والملكانيين (اتباع كنيسة بيزنطة) ويؤمنون بمذهب الطبيعتين، وتم عقد مجمع دينى فى خلقدونية وإقرار مذهب الملكانيين واعتبار اليعاقبة ملحدين كفار وبناء على ذلك تم طرد ونفى بطريرك الأسكندرية مما أثار غضب المصريين.


أعلن المصريون العصيان وسموا انفسهم الارثوذكسين وأمعن الأباطرة فى التنكيل بهم وتعذيبهم، وعادت معاناة المصريين مرة أخرى وتحملوا العذاب من أجل عقيدتهم وكان لذلك أثر كبير فى تسهيل فتح مصر فوقف المصريون بجانب العرب المسلمين المتسامحين ضد الرومان المتعسفين.


 

 

الفصل الثانى
الأسكندرية منذ الفتح إلى العصر الفاطمى

الفتح العربى واختيار العاصمة

افتتح عمرو بن العاص حصن بابليون عام 19هـ وواصل زحفه إلى الأسكندرية لفتح مصر وكتب بذلك إلى الخليفة عمر بن الخطاب وسار إلى الأسكندرية شهر ربيع الأول عام 20هـ بعد أن استخلف على حصن بابليون خارجة بن غانم.


اشتبكت قوات المسلمين بقيادة عمرو بن العاص مع قوات الروم فى نقيوس ثم سلطيس ثم الكريون انهزم الروم فيها كلها وانسحبوا ليتحصنوا بالأسكندرية، حاصرها عمرو بن العاص فترة قيل أنها ثلاثة أشهر ولما لم يتمكن من دخولها ترك عليها فرقة من الجيش مرابطة عليها وذهب هو بباقى الجيش لإستكمال الفتوحات فى الوجه البحرى.


ساعد العرب على فتح الأسكندرية موت الإمبراطور الرومانى هرقل والمشاكل الداخلية بسبب الصراع على العرش فى الدولة الرومانية التى جعلتهم غير مؤهلين للحروب الخارجية قبل حلها مما ألجأهم لعقد الصلح مع المسلمين فأرسلوا البطريرك قيرس لعمرو بن العاص فى حصن بابليون ومعه تفويض من الامبراطور بعقد الصلح مع المسلمين.


تم الصلح على أن يأخذ المسلمين من أهل الأسكندرية جزية شهرية و150 جندى و50 مدنى رهينة، ووعدوهم بعدم التعرض لليهود وأديانهم ولا النصارى وكنائسهم، على أن يتم خروج كل جنود الروم من الأسكندرية خلال 11 شهر يدخلها عمرو بجيشة بعد ذلك.


كتب عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب يبشرة بفتح مدينة عظيمة وأورد له مزاياها وما فيها من خيرات وما غنموه من غنائم، ففرح عمر بن الخطاب وسجد شكراً وحمدلله.


بعد الفتح فكر القائد عمرو بن العاص أن يتخذ الأسكندرية حاضرة له لما بها من مظاهر عظمة فقد كانت أول مدينة فى مصر حين أسسها الاسكندر لذا بهرت الفاتحين ولصلاحها لتكون واجهة للدولة الجديدة، وأيضاً لما بها من مساكن توفر على المسلمين جهد بناء مساكن جديدة، فكتب بذلك للخليفة وأرسل الكتاب مع رسول فسأل الخليفة ذلك الرسول "هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟" فرد الرسول بالإيجاب فرفض عمر بن الخطاب اقتراح عمرو بن العاص.


لقد كان فى رفض الخليفة لموضع العاصمة رأى صائب كل الصواب، فقد كان يريد أن لا يمنعه من تفقد أمور دولته البحر، فيرسل لهم الممدد ويرسلوا له الرسائل ويذهب إليها فى أى وقت شاء من الشتاء أو الصيف دون ان يعيقة الماء، ولعلمه بعدم خبرة الجيش العربى بأمور البحر والأسطول على عكس الرومان المتمكنين فى هذا المجال وتفوقهم عليه.


محاولات الروم لاسترداد الأسكندرية

بالفعل ذهب عمرو بن العاص إلى الفسطاط وأنشأ عاصمته الجديدة بعيدًا عن الماء، وما كادت الأمور تستقر حتى أرسل الامبراطور قسطانز الثانى اسطولاً إلى الشام عام 25هـ فستولى على الأسكندرية وتحصن بها وعاونهم أهلها من الروم على المسلمين وليشغل جنود المسلمين فى الشام ويمنعهم من مساعدة مسلمين الأسكندرية أرسل اسطولًا يهاجم سواحل الشام ولكن إنهزم هذا الاسطول الآخر أمام معاوية والى الشام.


كان والى الأسكندرية فى ذلك الوقت هو عبدالله بن أبى السرح، فطلب المصريون من الخليفة عثمان بن عفان أن يجعل عمرو بن العاص قائد للجيش الذى سيحارب الروم لما لعمرو من خبرة بأحوال القتال فى مصر وهيبة فى قلوب العدو، بالفعل عين عثمان عمرو بن العاص على الجيش وقاتلهم قتالًا شديداً وهزمهم بالقرب من نقيوس فتراجعوا وتحصنوا بالأسكندرية فحاصرها عمرو بن العاص وكان قد اشتد عليه هذا الحصار لان الروم كانوا قد نصبوا النبال والمجانيق ولأن أسوار المدينه صعبة الإختراق فقاسى العرب كثيراً وندم عمرو على عدم هدم هذه الأسوار عند فتحها عام 20هـ وعهد على نفسه أن يهدم هذة الأسوار بمجرد فتحها هذه المرة.


تمكن عمرو بن العاص أخيراً من دخول المدينة وأعمل القتل فى حامية الروم والأهالى المتواطئين معهم وقتل قائد الحامية (مانويل) ورفع القتل فى مكان بٌنِىَ فيه مسجد عمرو بن العاص وتسمى ايضاً بمسجد "الرحمة" وهدم جزء كبير من سور المدينة وفى روايات قالوا انه هدمه كله ولكن مشكوك فى صحّة هذه الروايات، وأحرق المصريون جزء كبير من سفن الروم.


لم يستسلم قسطانز الثانى للهزيمة وكان يثيرة ما يٌحدِثُهُ العرب من انتصارات وفتوحات للبلاد على حساب امبراطوريتة وكادت الأسكندرية تتعرض لهجوم آخر عام 34هـ من الإمبراطور البيزنطى قسطانز الثانى ولكن العرب فى خلال هذه الفترة كانوا قد اكتسبوا خبرات بحرية وأعدوا اسطولًا ينافس أسطول الروم واستولوا على جزر فى البحر مثل كريت ورودس وقبرص وأراد معاوية مهاجمة القسطنطينية فأخرج له قسطانز الثانى جيشاً والتقى مع الجيش الشامى والمصرى بالقرب من مياة الأسكندرية فى موقعة ذات الصوارى وانهزم الروم شر هزيمة.


من خلال ذلك علمنا سر رأى الخليفة عمر فى الأسكندرية وعلمه بأنها أفضل مكان تؤتى منه مصر، فلم يأمن لذلك الثغر وأحاطة بعنايته وكان يرسل له الحاميات ترابط عنده ويأمر الولاه بالحذر من أن يغفلوا عن هذا الثغر.


أحوال الأسكندرية بعد الفتح

لا شك أن الأسكندرية قد تأثرت بكل هذه الأحداث من حروب وتهجير للروم وهدم لمعظم السور، ولكن رغم كل ذلك لم يهملها الخلفاء والولاه فكان عمرو بن العاص يُبقى بالفسطاط نصف الجيش والنصف الآخر قسمه نصفين نصف فى الأسكندرية والنصف الآخر على سائر البلد، وظلت هى محتفظه برونقها وعراقتها، وكذلك من المسلمين عامة من الجند الذين عملوا على الرباط فيها ورووا عن الرسول فضل الرباط عليها فوردها كل طامع فى الأجر والجهاد والثواب.


بنيت فيها المساجد وبلغ عددها نحو خمسة مساجد ( موسى ، الخضر ، ذى القرنين ، سليمان ، عمرو بن العاص ).


ظلت الاسكندرية برغم فقدانها لرونقها مذة يسيرة محتفظه بعراقتها واشتغلت بها المصانع التى تصنع السفن ودار الطراز لصناعة المنسوجات، وظلت محتفظة بمركزها التجارى الذى يمر به تجار البهار الاوروبيون، وتوطدت علاقتها بالبندقية فى العصر العباسى ونشطت حركة التجارة التى أدت لإزدهارها كمدينة، وجاء احمد بن طولون فأعاد ترميم السور والمنار المشهور.


كذلك لعبت الأسكندرية دوراً فى التاريخ فقد نزلها الربضيون عندما فرّوا من الأمير الحكم بن هشام، وتحصنوا بها وأقاموا فيها وجعلوها مركز مستقل لهم منذ عام 200 هـ إلى ان طردهم منها عبدالله بن طاهر الذى قلده المأمون ولاية مصر فتغلب على بن السرى وطردهم من مصر عام 212هـ واستقروا بجزيرة اقريطش وأسسوا دولتهم التى بقيت مدة 135عام.

 

 

 

الفصل الثالث
الأسكندرية فى العصرين الفاطمى والأيوبى

التفكير فى الإنتقال من المغرب لمصر وسبب ذلك

لم يمضِ على تأسيس الدعوة الشيعية فى المغرب خمس سنوات حتى فكر عبيد الله المهدى فى فتح مصر وضمها لأملاكه، لِما رآى فيها من تقدم وحضارة تصلح لتكون عاصمة لخلافتة ودولتة المنشودة، ولعدم صلاحية بلاد المغرب من جانب الموارد ومن جانب الأمن والتحصين.


محاولات الفاطميين دخول مصر

كانت أول حملات الفاطميين على مصر عام 301هـ بقيادة ابن الخليفة الفاطمى ابا القاسم بن عبيد الله المهدى والقائد حباسة بن يوسف واستطاع الجيش الفاطمى دخول برقة وبعدها الأسكندرية بدون مقاومة لنجاح الدعوه السرية بتمهيد الناس لدخول الفاطميين وما إن علم الخليفة العباسى المقتدر بالله بدخولهم حتى أرسل جيش كبير بقيادة مؤنس الخادم فهزمهم وردهم إلى المغرب.


عاود الفاطميون المحاولة مرة أخرى عام 307هـ بجيش بقيادة ابن الخليفة عبيد الله المهدى واستطاع الجيش الوصول للدلتا ودخول الاشمونيين والفيوم، غير أنه اصطدم بجند الخلافة والإخشيديين فنهزم أبا القاسم ورد من حيث جاء.


وكانت الهجمة الثالثة من الفاطمين عام 323هـ دخلت فيها الجنود الفاطمية إلى الأسكندرية وواجههم الإخشيد واستطاع هزيمتهم وطردهم.


نجح الفاطميون فى دخول مصر عام 358هـ بقيادة جوهر الصقلى بعدما هزموا الإخشيديين والكافوريين، وقدِم المعز لدين الله الفاطمى لمصر 362هـ وأسس بها دولته ومر بالأسكندرية.


الأسكندرية فى عهد الفاطميين

منذ ذلك الحين وعادت الأسكندرية لمجدها وازدهارها وزاد رونقها، فكانت تفد لها السفن من المغرب والأندلس وغيرهما من البلاد وتحط في ميناءها وتنتقل منها للفسطاط وغيرها لكل بلاد العالم، وبذلك كان للفاطمين السيطرة على أهم ميناء بحرى فى البحر المتوسط.


طبيعة أهل الأسكندرية من خلال أحداث التاريخ

كان من طبيعة أهل الأسكندرية ميلهم للإستقلال والعزلة بحكم بعدهم عن مركز إدارة البلاد فحدثت الكثير من الثورات فأقام بها الربضيون جمهورية مستقلة قرابة العشر سنوات قبل العهد الطولونى، وفى عهد الإخشيديين كانت الاسكندرية على اتصال بالفاطميين، وفى عهد الفاطميين حن أهلها للإنفصال وقام ناصر الدولة بن حمدان بالثورة ضد الخليفة الفاطمى المستنصر وقام بالدعوة للخليفة العباسى القائم بأمرالله على المنابر.


وفى عصر نفوذ الوزراء قام الأوحد بثورة على أبية بدر الجمالى، مما جعل بدر الجمالى يذهب لها ويقتل عدد كبير من جندها ويصادر أموال الكثير من أهلها ويبنى بهذه الأموال مسجد العطارين.


وعقب موت المستنصربالله 487هـ قامت الدعوة النزارية وتسبب ذلك فى حصار الأفضل لها وقذفها بالمجانيق وقتل نزار وأفتكين دعاة الثورة.


والكثير من أمثال ذلك من ثورات وقتال وخروج على الدولة والإستعانة بأعدائها مما تسبب فى إلحاق الأذى بالمدينة وأهلها مرات كثيرة.


برغم كل ذلك كانت للأسكندرية حضارة كبيرة وتقدم فى الإقتصاد والفنون والعلوم والعمارة فكان بها المساجد والقصور والمبانى الضخمة والمدارس والحصون، وذُكر ذلك فى كتب المؤرخين وكتبوا فى ثروات الولاة عليها وحال الناس ورفاهيتهم ووصف قصور قُضاتها.


منشآت الفاطميين فى الأسكندرية

جامع العطارين:

عندما قدم بدر الجمالى إلى الأسكندرية فى طلب ابنه الثائر وجد مسجداً خَرِباً كان قد أقيم مكان كنيسة القديس اثناسيوس فأمر بترميم هذا المسجد والإنفاق علية من الأموال التى صادرها من الثائرين فى الأسكندرية، وسمى مسجد الجيوش نسبة إلى لقب أمير الجيوش بدر الجمال وسمى بالعطارين لوجودة بسوق العطارين، ولم يبقى لهذا المسجد أثر فقد بناه عباس حلمى 1901.


مسجد الطرطوش: 

أقامة الفقية الأندلسى الشهير أبوبكر محمد بن الوليد الطرطوشى الأندلسى، وكان قد نزل للأسكندرية وقام بها إلى أن مات وأنفق على بناءة من مال الديوان السكندرى، وكان قريب من الوزير المأمون بن البطحائى وأغدق علية المأمون الكثير من الأموال وألف له الفقية كتاب مشهور اسمه سراج الملوك، ضاعت معالم هذا المسجد وكان على باشا قال انه رممه فى أيامه وأن والدة الخديوى إسماعيل أمرت بتجديدة.


مسجد المؤتمن: 

أقامة المؤتمن أخو الوزير المأمون بن البطحائى فى نفس عام تولية واليًا على الأسكندرية عام 511هـ.


المدارس السنية: 

لأن أهل الأسكندرية يميلون للمذهب السنى فقد أُقيمت بها مدرستان لتعليم هذا المذهب (1) أبى طاهر بن عوف. وأقامها رضوان ولخشى وزير الحافظ لدين الله عام 533هـ، (2) الحافظ السلفى. وقد بناها العادل بن السلار وزير الخليفة الظافرعام 544هـ وكانت هاتان المدرستان أولى المدارس التى أنشأت فى مصر الإسلامية.


دخول الأيوبيين مصر

جاء أسد الدين شريكوه للأسكندرية للمرة الثانية بعد نكث شاور للعهد الذي بينه وبين أسد الدين ولما كان لا استطاعة لشاور بمواجهة أسد الدين أرسل فى استنجاد "مرى" ملك القدس وعندما وصل أسد الدين لبلبيس 562هـ واجهه جنود الصليبيين وشاور والمصريين فى موقعة البابين فى الأشمونيين وتغلب عليهم أسد الدين وترك صلاح الدين مع حامية بالأسكندرية وذهب لإخضاع الصعيد فستغل شاور وملك القدس ذلك وضربوا حصاراً على الأسكندرية ثلاثة أشهر صمد فيهم صلاح الدين وعندما علم أسد الدين بذلك رجع من الصعيد للقاهرة وضرب عليها الحصار مما جعل شاور يفك الحصار عن الأسكندرية ويدفع 50 ألف دينار لأسد الدين.


موقف صلاح الدين من الأسكندرية وأهلها

لم ينس صلاح الدين وقوف أهل الأسكندرية بجانبة فى أيام الحصار العصيبة رغم نفاذ الموارد فعرف لهم ذلك وأولاهم أهتمامة وقام بعدة زيارات للأسكندرية قام فى كل مرة فيهم بعمل يخدم حضارتها وأهلها، فزارها 566هـ ورمم سورها ولم شعثه.


وفى عام 567هـ علم صلاح الدين أن مجموعة من أصار الفاطميين بالأسكندرية قد تحالفوا مع الصليبيين فى الشام وصقلية فقبض صلاح الدين على المتآمرين وقتلهم، ولم يكن وليام الثانى قد علم بأن هذا المخطط قد كشف فقدم فى جيش عدده 50 ألف مقاتل ونزل بساحل الأسكندرية وصمد أمامهم المسلمين ولكن قوة الروم جلعت المسلمين ينسحبوا ويتحصنوا داخل السور وفى اليوم الثالث لحصار الفرنجة لهم خرجوا فجأه وباغتوا الروم ومزقوهم وغنموا منهم وأحرقوا سفنهم، لذلك انتبه صلاح الدين لها وأحاطها بعنايته الشديدة.


زارها للمرة الأولى عام 566هـ ورمم الحصون والأسوار، ثم مرة ثانية 572هـ وكان معه ولديه جلبهم معه ليتعلموا فى المدرسة السنية الخاصة بأبى طاهر السلفى واستغل زيارته وحصن المدينه وأشرف على تأمينها وعمّر الأسطول وقواه وجعل له ديواناً سماه ديوان الأسطول، ثم مرة ثالثة 577هـ وشاهد السوارى وتفقد ما أمر بإتمامة من الأعمال وقال نغتم حياة الشيخ أبى طاهر بن عوف ونأخذ منه العلم فحضر معه وسمع منه موطأ مالك، وأمر صلاح الدين فى هذة الزيارة بإقامة مدرسة على الطراز السلجوقى بهدف تدريس كل العلوم وليس المذهب السنى فقط وألحقت بهذه المدرسة سكن للطلبة وحمامات لإستحمامهم ومارستان لعلاجهم، وقد قام عدد من المؤرخون بوصف هذه المدرسة.


كان نتيجة أهتمام صلاح الدين بها أن ازدهرت، ونمت تجارتها وأصبحت العاصمة الفعلية لمصر فى هذا العصر وكان نتيجة ازدهار تجارتها أن أقامت الجمهوريات الإيطالية فنادق لها بالأسكندرية.

 

 

الفصل الرابع
عصر المماليك (العصر الذهبى للأسكندرية)


كان عصر المماليك هو العصر الذهبى لمدينة الأسكندرية فقد اهتموا بها أقصى إهتمام وعملوا على تنميتها وتحصينها والعمل على جعلها واجهه لدولتهم فبنوا المنشآت والحصون.


عزز من أهمية مركز الأسكندرية أن الصليبيين قد وجهوا انظارهم لها بعد فشلهم فى دخول مصر من طريق دمياط مرتين فى عهد الأيوبيين، كما زاد تهديم أجزاء من دمياط وردم فم بحرها لتأمينها من هجمات الصليبيين فأصبحت الأسكندرية هى الميناء الوحيد والأهم تجارياً وعسكرياً، وتحولت من ولاية إلى نيابة لكونها من أهم الثغور وكان واليها يصل لمرتبة نائب السلطنة المصرية.


كانت التجارة وأرباحها الضخمة تزيد من الرخاء والرفاهية وتساعد على تقدم المدينة ومنشآتها ومستوى معيشة أهلها وكان من مظاهر هذه الحضارة هى المنشآت على اختلاف أنواعها (وكالات – فنادق – دور للصناعة – دور مخازن للأسلحة – دور للأحاديث – حصون – مساجد).


لقد اهتم المماليك عامة بالأسكندرية وبالأخص ستة مماليك منهم ثلاثة من المماليك البحرية وثلاثة من المماليك الجركسية، البحرية هم بيبرس ومحمد بن قلاوون والأشرف شعبان والجركسية هم برسباى وقايتباى وقنصوة الغورى.


الظاهر بيبرس:

هو أول من أهتم بالأسكندرية من المماليك عدة زيارات عمل فى كل واحدة منهم عمل خلدة التاريخ وذكرة له المؤرخون فكان يزور العلماء والمشايخ ويسمع لنصائحهم، رمم الحصون والأسوار، أمر بإزالة الرواسب الرملية التى كادت أن تسد جزء من ترعة الأسكندرية، يتفقد الحصون، رمم المنارة وأمر ببناء مسجد على القبة مكان القبة الخشبية التى كان قد أنشأها احمد بن طولون.


الناصر محمد بن قلاوون: 

الذى أمر والى الأسكندرية بترميم المنشآت التى أتلفها الزلزال الذى حصل عام 702هـ، وكان قد شرع فى بناء منار جديد بإزاء المنار القديم ولكنه مات قبل تمامه، عمل أهم المشروعات وهو خليج الأسكندرية أو الخليج الناصرى 710هـ وكانت الترعة القديمة قد طمرت بالرمال وكان هذا الخليج يمتد من العطف الى كفر الحمايدة وهو نفس مجرى ترعة المحمودية وكان لهذا الخليج عظيم الأثر على الأسكندرية فقد نمت من الناحية الإقتصادية وزاد مال الديوان، وعمارة ما على حافتى الخليج من أراضى فنشأ فيها الزرع والأسواق، وأفاد فى رى الحقول والبساتين، ولم يجعل أهل الأسكندرية مضطرين لشرب الماء من الصهاريج والخزانات وأصبحت المياة متوفرة طوال العام بسهولة.


الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون: 

بعد وقوع عكا وسواحل الشام فى يد المسلمين نزح الصليبيين إلى جزيرة قبرص وأقاموا حكمهم هناك وحكمتهم أسرة لوزتيان واتخذوا من تلك الجزيرة قاعدة لحربهم على مصر.


كانت الأحوال فى مصر بعد موت محمد بن قلاوون غير مستقرة فقد تولى شؤون الدولة والحكم مجموعة من أولادة وأحفادة الأطفال فكان الأشرف شعبان فى سن 11 عام وكانت السلطة الفعلية فى يد يلبغا الخاصكى وتنازع كبار أمراء المماليك على الإستئثار بالحكم وانشغالهم عن شؤون الدولة وتأمينها.


استغل حاكم قبرص بطرس الأول لوزتيان حالة الصراع وعدم الاستقرار الموجودة فى مصر وكان هو أشد ملوك الصليبيين تعصباً للمسيحية وأظهر ذلك من خلال تكريس جهودة لحرب المسلمين خاصة فى مصر التى هزمت المغول وأخذت من الصليبيين الجزر والسواحل فطاف بطرس الأول أوروبا طالبًا مساعدتهم بالمال والرجال.


هجمت الحملة الصليبية على سواحل الأسكندرية والأهالى والجنود فى غفلة من أمرهم وكانوا يحسبون سفن الحملة هى السفن التجارية القادمة من البندقية لذا لم يتمكنوا من دخول الحصون وإغلاق الأبواب فدخلت الحملة وأعملت القتل والإغتصاب والنهب والأسر فى أهالى الاسكندرية وعندما علموا بتحرك قوات المماليك بقيادة يلغا الخاصكى اخذوا الغنائم والأسرى ورجعوا لبلادهم.


فطن السلطان الأشرف شعبان لخطورة هذا الثغر وكان من أول قراراته تحصينه هو تحويل الأسكندرية من ولاية إلى نيابه يحكمها نائب له يستقل بشؤونها ويهتم بتأمينها وكان لهذا النائب نفس سلطات نواب سوريا ودمشق وحلب، وكان موكبه يضاهى موكب السلطان.


زاد السلطان الأشرف شعبان فى الإهتمام بالمدينة وزارها عندما قارب سن البلوغ وتقدم بموكبه وتفقد الأسوار والحصون والخندق، ووصفت لنا كتب التاريخ هذه الزيارة بالتفصيل مما جعل هذا الوصف يجعلنا نقف على التخطيط العمرانى للمدينة فى عصر المماليك.


الأشرف برسباى: 

يقترن اسمة بالخليج الجديد، حيث أن الخليج الناصرى كان قد انقطع الماء منه ولا يدخله الا ايام الفيضان فقط مما أدى إلى بوار معظم الأراضى التى كان يخدمها هذا الخليج، فانتدب السلطان الأشرف الأمير جرباش فشرع فى حفرة من جديد واستمر الحفر حوالى 90 يوماً وسميت الترعة الجديدة بالأشرفية تيمناً بإسم هذا السلطان.


الأشرف قايتباى: 

بسبب اضطراب العلاقات بين مصر والدولة العثمانية اهتم السلطان قايتباى بتأمين الأسكندرية  فقد زارها عام تولية الحكم وأمر ببناء برج على أساس المنار القديم وزارها بعدها بعامين ليشاهده وكان فيه مسجداً وطاحونًا ومخزن للسلاح ومكاحل معمرة بالسلاح.


كان قايتباى يعلم ما يجول فى خاطر جيرانه الأتراك وقد كانت العلاقات بين البلدين فى السابق تقوم على الود المصطنع فكلاهما يحسد الآخر ويترقب ويحذر منه، وكان قايتباى يعلم انتظار العثمانيين للفرصه المناسبة لينقضوا على مصر خصوصًا بعد فتح القسطنطينية فى عهد إينال.


زاد هذا الصراع بعد موت محمدالفاتح وتولى إبنة بايزيد الثانى مما جعل "جم" يتصارع معه على العرش وقد لجأ جم إلى المماليك وساندوه بالعدة والمال والجند.


السلطان قانصوة الغورى: 

لقد كان اكتشاف البرتغاليون لطريق رأس الرجاء الصالح ضربة قوية للأسكندرية فقد كانت سيطرتها على طرق التجارة فى البحر هى عمود نهضتها فعندما رابطت سفن البرتغاليين عند مدخل البحر الأحمر بقيادة دي جاما فاسكو لمنع السفن المصرية من العبور للهند فقدت الأسكندرية رونقها والكثير من نضارتها القديمة.


فسّر الكثير من المؤرخون أسباب تراجع نهضة الأسكندرية فى ذلك العصر إلى أسباب أخرى منها انتشار الأوبئة كالطاعون مثلاً، وقيل بسبب ثورات الأهالى، وقالوا بسبب استبداد السلاطين وولاة الأسكندرية الذين نهبوا خيراتها وتعسفوا فى أخذ المال بكثرة وبالقوة من كل صاحب مال.


بالرغم من كل ذلك أهتم بها قنصوة الغورى بسبب خوفه من هجوم الإفرنج وبسبب المعلومات التى وردت إليه من تحضير العثمانيين لدخول مصر عن طريق الأسكندرية وتجهيزهم الاسطول بسبب الخلافات التى بلغت أشدها بين الدولتين بسبب وقوف قنصوة الغورى بجانب الصفوى وإيواءة للفارين من الاسرة العثمانية الحاكمة، لذلك انتدب مساعدة لزيارة الأسكندرية وزارها هو أيضاً بنفسه وتفقد حصونها ورمم أسوارها وعمل على تأمينها.

 

 
الفصل الخامس
حضارة الأسكندرية فى العصر الإسلامى


التخطيط العمرانى 

ينقسم العمران والمدن العمرانية فى العصر الإسلامى لقسمين: الأول مدن بناها المسلمون تمكيناً للإقتصاد وإظهاراً للحضارة والعظمة وتدعيم للنظام الدفاعى واستراحات للملوك والأمراء بعيداً عن نظر الناس, الثانى عمران وجده المسلمون فى البلاد من آثار الحضارتين الرومانية واليونانية وهذا العمران ظل فترة من الزمان إلى ان صٌبغت المدن بالصبغة الإسلامية وأصبحت مدن إسلامية.

(1) عمارة دينية: 

كالمساجد والزوايا والمدارس والأربطة.

(2) عمارة مدنية: 

وهى قصور الملوك، الدور والآخائذ، الحمامات، الصهاريج، الفنادق والخانات، دور الصناعة، دور الضرب، دار الطراز.

(3) عمارة حربية: 

السور، الخنادق، الأبراج، الحصون، القلاع.


الحالة الإقتصادية

(1) التجارة: 

فكانت الأسكندرية هى الثغر الأهم منذ الفتح إلى بداية الدولة العثمانية وطريق التجارة بين الشرق والغرب وبسببها ازدهرت الأسكندرية فكانت تفرض ضريبة تسمى ضريبة الثغور على السفن التجارية التابعة للتاجر الفرنج مقابل العبو أو الدخول للبلاد وبسببها لم تنجح محاولات الباباوية فى جعل اوروبا تقاطع مصر بعد استيلاء المماليك على عكا ذلك أن مصر بالنسبة لأوروبا حليف لا يستطيعون المجازفة بتجارتهم واقتصادهم ومقاطعتها.


وكانت الأسكندرية هى المركز الأهم فى مصر الذى يجلب منها الاوروبيون البهار الهندى والالآلى الصينية، وكان برسباى أقسى السلاطين فى احتكار البهار وتحريم شراءه من غير مخازن السلطان وفرض ضرائب باهظة جعلت التجار يتذمرون وجعلت البندقية ترسل سفنها لتأخذ التجار وتقطع علاقتها بمصر غير أن برسباى تراجع وخفف الضرائب، ثم تضائل مركز الأسكندرية كثيراً بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.


(2) الزراعة: 

رغم شهرتها الكبيرة كانت تمتاز بالحقول والمزارع والبساتين وكانت أرضها تخرج الكروم والزيتون والتين واللوز والجوز وسائر الفواكهه والرياحين.

وزاد فى ازدهارها زراعياً الخليج الناصرى الذى بناه محمد بن قلاوون فقام الناس بالزراعه على طول الطريق الى الأسكندرية واستغنوا عن الصهاريج وزادت الأراضى الزراعية نحو 100 ألف فدان ولما انسد هذا الخليج اقفرت الأرض إلى ان حفرها برسباى مرة أخرى ولكن لم ترجع لسابقها إذ اخذت الأسكندرية تسير نحو الإضمحلال.


(3) الصناعة: 

اشتهرت مدينة الأسكندرية بصناعة الخزف والعاج والنسيج والزجاج والسفن، فكانت تصنع كسوة الكعبة والخلع التى يلبسها الملوك والولاه وكانت تشتهر بذلك حتى قبل الفتح ولم تتغير بالتغيرات السياسية كذلك الخزف التى اشتهرت بصناعتة للزينة ووجدت آثارة فى الحفريات وازدهر فى العصر المملوكى والفاطمى، كذلك الحال فى صناعة الزجاج التى اشتهرت باستخدامه فى صناعة الأوانى والقارورات والأختام وكشفت ذلك أيضاً الحفريات.


الحياة العلمية  

لم يأفل نجم التعليم والثقافة فى الأسكندرية بعد الفتح انما أفل نجم تعليم الثقافة اليونانية وأقبل الناس على تعلم الثقافة العربية فنبغ العلماء منها فى شتى العلوم خالد بن يزيد فى الكيمياء، بلطيان السكندري وسعيد بن نوفل وسعيج بن البطريق فى الطب.


ولم تكن الأسكندرية فى بداية الفتح لتهتم بالعلوم الدينية انما اختصت الفسطاط بهذة العلوم حتى الفتح الفاطمى فأُنشأت فيها مدرستين سنيتين لتعليم الناس المذهب السنى (العوفية ، السلفية) أنشأ الأولى الوزير رضوان الولخشى وأنشأ الثانية الوزير العادل بن السلار. وأسس صلاح الدين المدرسة والبيمارستان اللذان جلبا علماء الأندلس والمغرب وازدهرت الحركة العلمية فى عهدة لتشجيعة لها واهتمامه بالعلماء.

 



[1] هى الحضارة الإغريقية التى اكتسبت كيراً من الصفات المحلية أو العناصر المشرقية، وانتشر هذا النوع من الحضارة فى البلاد الشرقية للامبراطورية الإغريقية.


تم بحمد الله

محمد عبدالغفار بدر


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة الوطاسية (الوطاسيون) || تلخيص من كتاب: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لشهاب الدين السلاوي

تاريخ الدولة الطاهرية | أول الدويلات المستقلة في الدولة العباسية.