الشاهد أصم وأبكم!

الحمد لله الذي خلقنا، الحمد لله العليم بحالنا، الحمد الله البصير بأحوالنا، الحمدلله السامع لأنَّاتِنا. يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا". والصلاة والسلام على سيدنا محمد المُدافع والشفيع لنا يوم العدل والحكم، الذي قال في حديثه الشريف محذرًا من الظلم: "اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".

الشاهد أصم وأبكم!

حديثي اليوم عن نوع من أنواع الشهود، وقبل أن أُشير أليه أذكر أولًا أنواع الظُلم، لتعلق هذه الانواع بصلب موضوعي.


الظُلم ثلاثة أنواع، قسمهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف فقال: "الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله. فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض".


فلما كان ظلم الله عاقبته النار في الآخرة، وظلم النفس يظلمه الله، كان حديثي اليوم عن ظلم العباد بعضهم لبعض، وهو معنى مفتوح غير مقصور على العامة، بل ظلم أي عبد لأي عبد، ظلم المدير للموظف، والموظف للمدير، ظلم الحاكم للمحكوم، وظلم المحكوم للحاكم، ظلم الأب لإبنه والإبن لأبيه ... كُلنا عباد لله، وأي ظلم واقع علي أحدنا من الآخر أو واقع من أحدنا على الآخر، فهو نوع خطير من الظلم، لا يغفره الله ولا يتركه حتى يتخالص المتخاصمان ويسامح المظلوم منهم الظالم، وإلا فعاقبة الظالم وخيمة جدًا. 


مظالم العباد تمتاز بإعتمادها على البينة، وتلك هي الميزة التي قد تصبح عيبًا في أحوالٍ كثيرة، لأن البينة قد تكون أمرًا غير قابلاً للتاكد منه! قد يكون شاهد النفي أو الإثبات شارِعًا عموميًا أو مِرفقَا حكوميًا أو مبدءًا داخليًا أو غيرهم من الأشياء الصمَّاء البكماء التي لا قيمة لها بالنسبة للقاضي/الحاكم، ولكنها هي حياة المتهم/المظلوم.

ولما كانت العدالة عمياء، لا ترى إلا الماديات، وكان بعض الشهود لا يستطيعون الإدلاء بشهادتهم  كان من البديهي أن يتعرض الدين الإسلامي لتلك القضية، فجاء في الحديث الشريف ما يُقر بأن القاضي قد يحكم بغير الحق بسبب اعتماده على الأوراق فقط، وتحذير للمسلمين أن يقبلوا بأخذ حقوق ليست لهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ".


القاضي في صدر الإسلام كان هو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ثك في الدولة الأموية كان الخليفة أو القاضي هم من يفصلون بين الناس في منازعتهم، ولما كان النبي هو النموذج الأكمل والذي يوحى إليه من الله يقول أنه قد يحكم بما ليس كامل الحقيقة بسبب أن ما سمعه من الظالم أجود مما سمعه من المظلوم ولفصاحة الظالم وبلاغته وارتفاع صوته ووضوح مخارج حروفه، مما يؤدي لتوهم أن الحق معه. كان الحذر في أيامنا هذه أكبر.


فُلان يُوكل المحامي الأكبر سنًا والأفصح كلاماً ليأكل به حق أخيه أمام العداله، فيحكم القاضي بما لديه من أوراق وما سمعه من مُرافعة، فيقع بسبب ذلك ظلم على بعض المظلومين.


أُنادي وأنا المظلوم الذي كان ظالمه ألحن بحجته منه، وأتمنى أن يُسمَع صوتي: يا قاضي! الشاهد على براءتى أصم وأبكم، دليل براءتى اعتقاد وشوارع ومؤسسات وحُبٌ. فكيف آتي بهم إلى القاعة وأجعلهم يتكلمون!!؟ كيف؟.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة الوطاسية (الوطاسيون) || تلخيص من كتاب: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لشهاب الدين السلاوي

تاريخ الدولة الطاهرية | أول الدويلات المستقلة في الدولة العباسية.

تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم