مخـاض

 الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ". والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مُعلم الناس الخير، ومحبب إليهم الصبر والرضا، ومُفهمهم أن الدنيا أيام وأيام، فيوم لهم ويوم عليهم، وكلاهما من الله.

قضى الله تعالى أن لا يكون الدهر على وتيرة واحدة، وأن تتغير الأيام وتتنقل بين فرح وحزن، وانتصار وهزيمة، فلا حال يدوم، ولا حالةٌ تُقيم، وتلك السنة الهامة من سنن الله في الكون تُسمى سُنة "المداولة".

أكد المؤرخ ابن خلدون على ذلك المعنى القائل بالتشابه بين الدولة والإنسان حينما شبَّه الدولة بالكائن الحي الذي له عمر وطبيعة خاصة، يُولد ويقوى ويمرض ويشيخ ثُم يموت!.

ولسنا الآن في تفنيد وشرح لهذه السنة، بل الكلام حالة من أحوال الزمان، يمر بها الفرد والجماعة بين الوقت والآخر، فطالما اتفقنا أن الزمان أحوال، كان لِزامًا علينا الإعتراف بأن لكل حالة من أحواله (اسم - طبيعة - علامات).

والحالة التي نحنُ بصدد الحديث عنها اسمها حالة المخاض!. والمخاض هو أشد وأصعب مراحل الولادة ألمًا، وبعده يخرجُ مولودًا جديدًا للحياة، طبيعة هذه المرحلة هو كثرة الدم والألم والبكاء.

وإن كان حديثي في الأصل عن مرحلة تمر بالدول والمجتمعات، إلا أنني اخترت لها اسم مرحلة من تمر بالإناث من الكائنات الحية، وذلك لما بين الدول والأفراد من تشابهه، فالدول أيضًا تمُر خلال  تاريخها بمرحلة المخاض، تكون الأوضاع فيها أشدُ ألمًا، يكثُر فيها الدم، ويُسمع فيها الأنين والنحيب، وعلى الرغم من هذه العلامات الأليمة جدًا إلا أن نصف الكوب الغير فارغ سنجد أن بعد ذاك الألم ستخرج للوجود دولة جديدة.

ضعيفة في بدايتها عليها أثر الدماء والألم، تقوى مع مرور الوقت حتى تصبح فتية قوية شابَّة، ثم تهرم وتشيخ ليطلع علي ظهرها دولة وليدة وبتلك الخطوات المتكررة تتحقق سُنَّة "المداولة".

بتلك السنة استطاع الحكماء قراءة المستقبل! فيقول أبو الجوزاء -الذي عاش في عهد الدولة الأموية- متنبئًا بما سيجري في المستقبل وذلك من خلال تدبره لهذه السُّنة الربانية، وبلغ من يقينه أن أقسم في ثقة: "والله ليُعِزَّنَّ الله ملك بني أمية كما أعزَّ ملك من كان قبلهم، ثم ليذلنَّ ملكهم كما أذلَّ ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.

إن مرحلة مخاض الدول يكثُر فيها الهرج والمرج الذي يفعله الغوغاء من جانبهم، وفي المقابل تقوم الدولة بتشديد العقوبات، والتعامل بالقوة الغاشمة وتوسيع دوائر الإشتباه، وتفعيل قوانين الطوارئ، كُل ذلك في سبيل القضاء على حالة الفوضى، والعبور بالدبلاد إلى بر الأمان والإستقرار.

ثُم لما يتحقق للبلاد ذلك تكون أمام مفترق طرق، الأول: هو أن تخفف من الإجراءات المشددة، وتضيق دائرة الإشتباه، وتعيد التحقيق بتأني فيما أصدرته من أحكام، وترجع إلى ما كانت عليه قبل مرحلة المحاض .. من الإهتمام بحقوق الإنسان والسعي للتقدم والتنمية بنفس الإهتمام بالأمن والأمان.

ومن الخطأ الكبير هو الإغترار بالسياسة التي انتهجتها الدولة في مرحلة المخاض والتمسك بها، وتعميمها على كافة المراحل! فذلك الإغترار الناتج عن تحقيق الأمن في الفترة العصيبة قد يتسبب في ضجر العامة وكبتهم، وقد ينتج عن ذلك تردى الحالة الفكرية التى من شروط ازدهارها توفير مناخ ملائم، وغيرها من النتائج الوخيمة.

 وفي هذا المعنى يقول الشاعر: هي الأمورُ كما شاهدتَها دُوَلٌ *** من سرَّه زمنٌ ساءته أزمان.

سُّنة المُداولة في حقيقتها سُنة صحية، تبعث على الأمل في نفوس المهمومين والمنهزمين بأن الزمان كما أدار لهم ظهره، سيعطيهم أيضًا وجهه. وتبعث التواضع والإعتدال في نفوس المنتصرين فلا يغترون بما وصلوا إليه من مكانة.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة الوطاسية (الوطاسيون) || تلخيص من كتاب: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لشهاب الدين السلاوي

تاريخ الدولة الطاهرية | أول الدويلات المستقلة في الدولة العباسية.

تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم