مما علمني أبي

الحمد لله رب العالمين، يارب .. اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت على الحق أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. يارب .. اغفر لأولنا وآخرنا، وحاضرنا وغائبنا، وكل من له حق علينا، وكل من علمنا حرفًا من كتابك، اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم يارب والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.

مما علمني أبي
في الحقيقة إنني ألتمس المقامات التي تسمح وتُتيحُ لي الحديث عن المثل الأعلى، والقدوة الحسنة .. والدي -رحمة الله عليه- فأتحسس مواطن الحديث عن الأب،كعيد الأب وذكرى ميلاده، وذكرى وفاته، وأحداثٍٍ  ومواقف لولًا كلماته لما كنتُ استطيع التصرف فيها. اتحسس تملك المواطن كلها وغيرها لأتحدث عن سيرته، فالحديثُ عن الحبيب حبيبُ، والأُنسُ كلَّ الأُنسِ في استذكاره والكلام عنه. ولذلك وددتُ في البداية أن أحمدُ الله على تلك الفرصة التي ظهرت أمامي قدرًا وجعلتني اكتُب.
عِند الحديث عن والدي فإنني أُريد تلخيص حوالي 27 سنة من حياتي عشتها معه بكل تفاصيلها، فمن النعم التي أنعم الله علي بها هي أنني ومنذ  نعومة أظفاري أعرف قيمته، فهو ربُ أُسرتي، وصاحبي إذا تحدثنا، وإمام وخطيب المسجد الذي بقرب منزلنا، أراه دائمًا عالي المقام، صاحب الهيبة والوقار إن صمت، وصاحب الصوت المسموع إذا تحدث، يبتسم عند النوازل في إشارة منه للرضا بما قدَّرهُ الله، ويبادر في تخفيف وقع الألم والمصيبة على من حوله. يفرح للناس وأهله ولنفسه ويظهر أثر فرحه على وجهه واضحًا ويبادر بالإحتفال.


- الصداقة: 
من أكبر الدروس التي تعلمتها من الوالد رحمه الله، فقد حكى لي في البداية عن أصدقائه في الطفولة، حيث اللعب واللهو المُلازمان للصلاة والمذاكرة والعبادة، يجتمعون للحديث والسمر، ويزور صحيحهم المريض، ويذهب أحدهم للآخر في وقت الفجر ليوقظه للصلاة في جماعة. يشدون الرحال للبلاد المجاولة والمدن البعيدة بحثًا عن الرزق الحلال، ولا يرجعون إلا بمال قد ادخروه من عملهم ينفقونه على أهلهم وتعليمهم. ظل أبي على تواصل مع أصدقائه من الطفولة حتى بعد زواجه وشغله، فكانوا معه على اتصالٍ كما كانوا في ذاكرته. حتى أن علاقته بي أنا كإبن كانت تتسم بالصداقة أولاً، فيتحدث معى كصديق أكبر مني، مر بما أمر به من تجارب، واستمر حاله إلى آخر عمره، فكان عندما يأبى أن يذهب للطبيب معى، أتودد إليه بصاحبه، فييستطيع صاحبه إقناعه بسهوله، يذهب معه صاحبه للمستشفى، وبعد عودته للمنزل يزوره أصدقاؤه فيأكل ويبتسم وترد إليه روحه، يدعوا لهم، ويسألهم عن أدق تفاصيل حياتهم ويكأنه أحد أفراد أسرتهم. مهما بلغ به التعب أو الإرهاق يستحيل أن يترك أحد أصدقائه بلا رد على مكالمته، يستيقظ من النوم ليرد عليهم، يرد عليهم أثناء الطعام يخبرهم أنه يأكل وسيعاود الإتصال بهم، من منشوراته الأخيره علي الفيسبوك صورة تجمع بعض أصدقائه في مرحلة الشباب وهم بالملابس الرياضية، وكتب فوقها أسمائهم، ومناسبة التقاط هذه الصورة.


- الوطنية:
ذكرتُ في المُقدمة أن والدي كان "إماماً وخطيبًا" في بداية حياته، وقد ترقى في المناصب الإدارية حتى وصل لمنصب مدير عام مديرية أوقاف محافظة البحيرة - مصر. وفي كل مراحل حياته كان مُهتمًا بشأن بلده ووطنه، يعتزُ جدً بما قضاه من فترة تجنيد كان فيها ضمن القوات الجوية في الجيش المصري. يقف على مسافة واحدة من كل أطياف الشعب ويربطه علاقة وطيدة بهم كلهم. يمتلك منبرًا إعلاميًا ينادي فيه بالإعتصام وعدم التفرق، بالوحدة والإتحاد لما فيهم من قوة، ويحذر من العدو المتربص الذي يريد لنا الفرقة والتفرق. كان والدي مُحبًا لوظيفته جدًا وليس من عادته تكرار خطبة جمعة أو درس، وقد لفت انتباهي تكراره لخطبة معينة كانت بعنوان:  "مصر في عيون أبنائها" كان ينتهز وجوده في محاضرة كبيرة العدد، أو افتتاح مسجد كبير المساحة كبير العدد، فيلقي على الجميع هذه الخطبة. وفي غير هذه المواضع كانت دروسه وخطبة تحوى دائمًا جُملة: "مصر هي رأسُ الزاوية"، كما كان يتكرر في خطبه ودروسه دعاء: "اللهم من أراد بمصر خيرًا فوفقه إلى كل خير، ومن أراد بها سوء فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه...". كان والدي يحث الجميع على اختلاف وظائفهم وأماكنهم أن يكونوا جنودًا لدولتهم، فتعلمتُ منه الوطنية، وشربت من كفّيه حب الوطن والإنتماء له.


- الهدوء والتماس الأعذار:
كان يتسم والدي بالهدوء في جميع أوقاته، وفي اكثر المواقف التي تستدعى الحديث والعصبية، تجده هادئًا لا عن ضعف، ولكن عن حكمة وفطنة. فما رأيته يومًا يتنازلُ عن حقة كما لم أره يومًا يصرخ أو يُعنِّف أو يُعارك أحدًا. حدث أن انقلب عليه صديقه يومًا، ولم أكن حاضرًا هذا الموقف، وقد حكى لي والدي ما حدث من صديقه (بصفتي صديقه) وقد ثُرت واحمر وجهي، وكدتُ أن أخوض في حق صديقه هذا، فنهاني، وقال لي: لم أحكى معك لتفعل هذا، بل لتفهم أنه لما ينقلب عليك الصديق وترى منه مالم تتعود عليه، اعلم أن لديه ما دفعه لذلك، ومايتوجب عليك هو امتصاص غضبه وعدم محاسبته على زلَّاته، بل أن تقف بجانبه، وتسمع منه، وتساعده في حل ما لديه من مشكلات أثَّرت على تصرفاته حتى مع أقرب الأقربين إليه.


لقد علمنى أبي الكثير من الأسس والمبادئ، القواعد والأصول، التي لا يتسع أي مقام لذكرها وقد أتحدث عن غيرها في مقالات قادمة، وإنما آثرتُ أن أُشير لثلاثة افتقدها العديد من الناس، وكانت سبب في مشكلات يظهر أثرها على المجتمع الآن، فما نحنُ فيه من تفكك واختلاف في العمل بسبب عدم تواجد الصداقة الحقيقية، وما نحن فيه من انتشار الأفكار المتعصبة، وتقديم مصالح الرجال على مصالح الدولة، والإستهانة بسيادتها ما هو إلا بسبب عدم الوطنية، وإن ارتفاع حالات الفراق، ومعدلات الجريمة ليست إلا سبب من أسباب العصبية وعدم التغافل.
رحِم الله والدي فضيلة الشيخ عبدالغفار عبدالعاطي بدر، واسكنه فسيح جناته، اللهم أبدل أبي دارًا خيرًا من داره، وزوجًا خيرًا من زوجه، وولدًا خيرًا من ولده. اللهم آنس وحشته، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم وأرِه مقعده من الفردوس الأعلى، واجعلنى ماحييت عمله الصالح الذي لا ينقطع، واجمعنى به في مستقر رحمتك. وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة الوطاسية (الوطاسيون) || تلخيص من كتاب: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لشهاب الدين السلاوي

تاريخ الدولة الطاهرية | أول الدويلات المستقلة في الدولة العباسية.

تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم