مقالات عن الدين الإسلامي ببساطة (4)


الحمدلله رب العالمين، يارب.. اغفر لنا ذنوبنا، واسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وثبّت على الحق أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. يارب.. اغفر لأولنا وآخرنا، وحاضرنا وغائبنا، وكل من له حقٌ علينا، وكل من علمنا حرفاً من كتابك. يارب.. اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم يارب والأموات، انك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعوات.

اخوتي في الله، بعد غياب ليس بالطويل، عُدنا لنُكمل ما بدأناه من حديث عن الإسلام وخصائصه ومميزاته، مراعيين في ذلك تبسيط المعانى وتيسير المفاهيم فيصل مقصدنا لكل الطبقات بسهولة، وقد أسميتُها بسلسلة "مقالات عن الدين الإسلامي ببساطة". تحدثتُ في المقال الأول منها عن "عالمية الدين". وفي المقال الثاني عن "المُشرّع" وهو الله تعالى، والميزة في ذلك والخطورة التي تفاداها الدين الإسلامي بذلك. وفي المقال الثالث عن "تناغم الدين الإسلامي مع الفطرة الإنسانية" وأمثلة ذلك التناغم. 

واليوم نحنُ على موعدٍ مع المقال الرابع، والذي سأتحدثُ فيه عن احترام المُشرّع والتشريع لنصفين يتكون منهما أى إنسان وهما (الفطرة و العقل). إن أى إنسان يحتاج ليؤمن بعقيدة ما أو يعتقد فكرٍ ما أن يطمئن لتلك العقيدة عقله وفطرته، ويرتاحُ نصفيه لهما، لكى لا يعيش ذلك الإنسان في صراع بين نصفيه مما يؤدي إلى ضنك في المعيشة وعدم ارتياح في السير على الطريق.

ولما كان الإسلام قد جاء لدينٍ ودُنيا فكان من الطبيعي أن يراعي إرضاء الإنسان بجزئيه، وأن يُخاطِب كل جانب على حِدا بالطرق والاساليب التى تفهمها ذلك الجانب، فخطاب العقل يحتاج لمقدمات ودلائل تسوق بالتدريج إلى نتائج وحقائق مادية وملموسة، وخطاب الفطرة يحتاج لغير ذلك من إثارة الروح والعاطفة، والإعتمادُ على البديهيات المتفق عليها والتي لا خلاف عليها.

ولكي لا يطول المقال ويكون به إطنابٌ ممل فسأذكُرُ مثالين فقط على خطاب القران واحترامه للعقل والفطرة. 

وأبدأُ بالعقل: فعندما أراد سيدنا إبراهيم أن يُثبت لقومه أن الآلهة التى يعبدونها لا تنفعهم ولا تضرهم، لجأ أولاً لمخاطبة عقولهم، واستعمل في ذلك الخطاب المنطق والعقل والحيلة، فقد  دخل إلى أصنامهم خلسة في يوم عيدهم وانشغالهم بالإحتفال به ثم قام بتكسيرها جميعاً عدا أكبر الألهة، وعندما دخلوا إلى المعبد وذهلوا من مشهد الآلهة المحطمة، وبدر إلى أذهانهم ذلك الفتى الوحيد الذي كان يذكرهم بسوء، وأمروا بإحضار سيدنا إبراهيم وسؤاله عن ذلك الحادث، وقد كان سيدنا إبراهيم جاهز بالإجابة فقال لهم عندما اتهموه: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ".

وكان يقصد بذلك أن يُثبت لهم أن الآلهة التى يعبدونها لا تملك حتى لنفسها ضراً ولا نفعا ولا تملك أن تدافع عن نفسها، ولم يستطع كبيرها الدفاع عنها، بل لا يستطيعون النطق وقول من فعل هذا بهم، هذا حالهم مع نفسهم فكيف بحالهم مع الذين يعبدونهم، بالطبع هم أقل حيلة من ذلك. وهذا بالضبط ما وصلهم من إجابته فقالوا: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ" وهنا جاء دول إبراهيم عليه السلام ليطلق كلمته الأخيرة التى فعل كل ذلك من أجل قولها فقال: "..أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (*) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ".

والمثال الثاني ايضا مع أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما ناظَر النمرود بالعقل والحُجة وقد ذكر القرآن الكريم هذه المناظرة: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" كل ذلك خطاب للآخر بالعقل، ومحاجة الفكر بالفكر، وما ذلك إلا لقوة الحق وقوة حُجته.

ثانيًا: الفِطرة.

تحدثنا عن مراعاة الشريعة في تشريعاتها لفطرة الإنسان والآن في خطاب الشرع لفطرة الإنسان، فقد استخدم الإسلام الفطرة كما استعمل العقل في الدلالة على صحته ووجود الله، فيقول الله في القرآن: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" لقد كان هذا المثال هو الأكثر وقعًا في النفوس للتدليل على وجود خالق، فإنه عند اصطدام الإنسان بمصائب الدنيا المختلفه فإنه وبدون أن يشعر يلجأ لله، وهذه هي الفطرة، ويقول الرافعي في كتاب وحي القلم ما معناه مثلُ ذلك: "وإذا ركبك الملحد أيها البحر، فرجفتَ من تحته، وهدرتَ عليه وثُرْتَ به، وأريتَهُ رأي العين كأنه بين سماءين ستنطبق إحداهما على الأخرى, فتقفلان عليه, تركته يتطأطأ ويتواضع، كأنك تهزه وتهز أفكاره معًا، وتدحرجه وتدحرجها. وأطَرْتَ كل ما في عقله, فيلجأ إلى الله بعقل طفل. وكشفت له عن الحقيقة: أن نسيان الله ليس عمل العقل، ولكنه عمل الغفلة والأمن وطول السلامة". نعم إن الفطرة السليمة تقود صاحبها للتوحيد فلا يمكن عدم استخدامها في الدعوة الي الله.
ثم في موضع آخر يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون" هذا ما تفعله انت نفسك عزيزي القارئ، اننا نكون اشدُ ارتباطا وقربا من الله فى حالات الضيق والابتلاء، ثم بعد كشف الضر عنا منا الكثير الكثير من يبتعد ولو بنسبة بسيطة جدا.

إن في احترام الإسلام لطرفي الإنسان ومخاطبته كل طرف بما يفهمه ويرضيه، جعله دين مميز، حيث يمكن أن يستخدمه الإنسان في العبادة والتعبد والدعوة والخلوات، ويمكن أيضا أن يستخدم في المعاملة والتعايش وقيادة الدول، وما ذلك إلا لكونه دين حركي قابل للتطبيق، وهذا ما ظهر لنا في هذه السلسلة من المقالات.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة الوطاسية (الوطاسيون) || تلخيص من كتاب: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لشهاب الدين السلاوي

تاريخ الدولة الطاهرية | أول الدويلات المستقلة في الدولة العباسية.

تاريخ الأسكندرية وحضارتها فى العصر الإسلامي حتى الفتح العثماني || تلخيص لكتاب الدكتور السيد عبدالعزيز سالم